ثم قال
شيخ الإسلام : "وكذلك قوله: (جاعله لأمة عظيمة) إن كانت تلك الأمة كافرة لم تكن عظيمة، بل كان يكون أباً لأمة كافرة، فعلم أن هذه الأمة العظيمة كانوا مؤمنين، وهؤلاء يحجون البيت، فعلم أن حج البيت مما يحبه الله ويأمر به، وليس في أهل الكتاب إلا المسلمون، فعلم أنهم الذين فعلوا ما يحبه الله ويرضاه".
قوله: (ليس في أهل الكتاب إلا المسلمون) أي ليس فيمن أنزل الله تعالى عليهم الكتاب من يحج البيت إلا المسلمون، ويبدو لي أن في هذه العبارة خللاً، ولكن المقصود واضح، وهو أنه ليس في أهل الكتب المنزلة من يحج البيت ويعظمه إلا المسلمون، ومعلوم أن اليهود والنصارى لا يحجون البيت الحرام ولا يعظمونه، مع أنهم يعظمون
بيت المقدس؛ ولكن البيت المعظم جداً جداً والذي بناه إسماعيل لا يحجه إلا المسلمون، فإذاً هم الأمة المعظمة جداً جداً.
ثم قال
شيخ الإسلام : "وأنهم وسلفهم الذين كانوا يحجون البيت أمة أثنى الله عليها وشرفها، وأن إسماعيل عظمه الله جداً جداً، بما جعل في ذريته من الإيمان والنبوة، وهذا هو كما امتن الله على نوح وإبراهيم بقوله: ((
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ))[الحديد:26]، وقال في الخليل: ((
وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ))[العنكبوت:27]، ولما قال في نوح: ((
وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ))[الصافات:77] كان في ذريته أهل الإيمان كلهم، فعلم بذلك أن إسماعيل وذريته معظمون عند الله ممدوحون، وأن إسماعيل معظم جداً جداً، كما عظم الله نوحاً وإبراهيم، وإن كان إبراهيم أفضل من إسماعيل.
لكن المقصود أن هذا التعظيم له ولذريته، إنما يكون إذا كانت ذريته معظمة على دين حق، وهؤلاء يحجون إلى هذا البيت، ولا يحج إليه بعد مجيء محمد صلى الله عليه وسلم غيرهم؛ قال تعالى: ((
وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ))[آل عمران:85]، قالت اليهود أو بعض أهل الكتاب: فنحن مسلمون".
هذه الآيات التي في سورة آل عمران نزلت في مناظرة وفد
نجران وما أثير من الجدال، فتأتي الآيات في هذه السورة تبين وترد على ما يدعيه أهل الكتاب.
فقال بعدها
شيخ الإسلام: "قال الله تعالى: ((
وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا))[آل عمران:97]، فقالوا: لا نحج، فقال: ((
وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ))[آل عمران:97]".
فمن أنكر الحج فهو كافر، إذاً فاليهود والنصارى ومن كان مشاركاً لهم في هذا ليسوا مسلمين.
ثم قال
شيخ الإسلام : "وأيضاً فهذا التعظيم المبالغ فيه، الذي صار به ولد إسماعيل فوق الناس، لم يظهر إلا بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم، فدل ذلك على أنها حق مبشر به. ومثل هذا بشارة أخرى بمحمد صلى الله عليه وسلم...".
فقد ذكر سابقاً بشارتين: الأولى: قوله: (جاء الرب -أو تجلى الرب- من
طور سينا، وأشرق من
ساعير، واستعلن من
فاران)، والثانية: أنه أسكنه في برية
فاران، وقال: سأجعله أمة عظيمة جداً.